أسيل ياغي

كاتبة من غزّة، لاجئة من قرية المسمية الكبيرة. درست القانون وتنشر كتاباتها في "حكايا غزّة."ا

2023 مقطع من نصٍ نشرته الكاتبة في رصيف 22، يوم 25 أكتوبر

السابع من أكتوبر، اليوم الموعود لأخذ جرعات من أشعة الشمس وإنتاج هرمون دال، تحضير الكثير من الأمور، كالملابس الخاصة بالسباحة، الاتفاق على قائمة لتسوقها وتجهيز الطعام. قرّرت النوم في منزل صديقتي المقرّبة، لقرب منزلها من شارع البحر ولقرارنا سلوك الطريق معاً وبشكل مباشر. قمنا بتصنيف ما تسوقناه في أكياس منفصلة، لمعاناتنا من هوس التصنيف والترتيب، ولم ننته من ذلك حتى ساعة متأخرة من الليل.ا

رقصت هي على موسيقى أغنية “سبستانس” وشاهدتها أنا بضحكات متواصلة، وضحكنا لمحاولة التقاطي ڤيديوهات مصورة لحركاتها التي تضحكني دائماً، ونامت كل منّا ونحن ننتظر الصباح المرتقب. في السادسة والنصف صباحاً تقتحم أخت صديقتي الغرفة لتصرخ بوجهنا: "قوموا قوموا قامت القيامة". نظرنا نظرة بلهاء لعدم فهمنا ما يجري -ليس هذا ما تخيلناه لبداية هذا الصباح بالذات- ثم أي قيامة ممكن أن تقوم يوم السبت؟

رافق اقتحامها الكثير من الرشقات الصاروخية التي لم نشهد مثلها من قبل، بعد إدراكنا فشل مخططنا، أصرّت أن نتشارك وجبة الفطور التي كان في مخيلتنا تناولها تحت أشعة شمس الصباح، وتناولناها تحت رشقات الصواريخ "بين طالع ونازل"، وجاء أخي بعدها فوراً ليقلّني للمنزل قبل بدء المعركة.ا

عدت للمنزل وبت أقنع نفسي أن الأمر لا يعدو مجرّد تصعيد من التصعيدات المتتالية المعتادين عليها خلال السنة، إلا أن أمراً ما جعل هذه المرة مختلفة عما سبقها.ا

الحرب، تلك الكلمة الكبيرة، كم كانت ترعبنا الحرب في البداية، أقصد العدوان الأول والثاني والثالث والرابع، والتصعيدات فيما بينها، كم أخذت من إنسانيتنا، كم جعلت قتل الآخر سهلاً ومرغوباً به، بل، وفي أحيانٍ كثيرة، واجباً.ا

مقتطف من رثاء الكاتبة لصديقتها ندا الدهشان، طالبة صيدلة، استشهدت مع أبيها وأمّها بقصفٍ.ا

كانت تقول لي لن أقبل أن ينتهي هذا العام، دون أن أذهب لأداء العمرة كانت تلك أمنيتها الكبيرة، كانت ستبدأ بمزاولة مهنة الصيدلة، وتنخرط في سوق العمل، لكن حُبها الشديد للعلم جعلها في حالة توتر غير منطقية، فبدأت بالتفكير للتقديم للمنح في الخارج وهي في الفصل الدراسي الأخير في الجامعة، لم تعش ندا شيئاً، لم تخرج من غزة أبداً، لم تعش شعور العمل وراتبها المستقل، لم ترَ أحمد مناصرة خارج القُضبان، لن ترىَ ابنتها، ولن تسميها ليلى، لن تحضر أمسية للإخوة جُبران، لن تراني وأنا أُحِب لأول مرة بعد أن عانت في إقناعي بأن الحُب أجمل شعور.ا


مقتطف من نص للكاتبة في "حكايا غزّة"ا

بكت أمي اليوم بكاءً شديداً، بكاء المقهورين المُتعبين، أُمي التي يشهد الجميع على ما تصنع يداها الجميلتان، بَكَتْ بعد أن احترقت طبخة المقلوبة “الكذابة” قبل تسويتها بالكامل، بكَت رغم أن احتراقها لا يد لها فيه إنما عدم قدرتنا على إيجاد قدر مناسب للطبخ بعد نزوحنا للمرة الرابعة لما يُفترض أن يكون المحطة الأخيرة “رفح”.ا

لم تَكُن المقلوبة وحدها من احترقت اليوم، كان في البدء قلبي، بعد أن شاهدتُ طفلاً جميلاً، هندامه نظيف ومرتب، كان يحمل قِدر صغير الحجم ذاهباً لملئه ببعض الطبيخ من مكان يبدو أنه لإغاثة الناس بوجبات من الطعام، كان عائداً والمكان يَعُج بالكثير ممن يحملون الأواني ملوحين بها نحو الأعلى، بكيتُ في هذا الصباح بكاءً لم أبك مثله طوال هذا الكابوس، أكثر من كُل المرات التي تلقيت فيها أخباراً مُفجعة للأصدقاء والأحباء، بكيتُ لأن الطفل كان يضحك، بكيتُ لأنني لو كنت مكانه لانفجرت من البكاء، لكنه جاء يضحك وواصفاً المشهد ب “موت أحمر”.ا

هل يَعي ذلك الطفل؟ ما معنى موت أحمر ليصف بها مشهداً مثل هذا؟

كيف خرج من هُناك وهو يضحك؟

ولماذا يضحك من الأصل يا الله!ا

لم تبكِ أمي؛ لأن طبخة المقلوبة لم تنجح، بكت لأن المقلوبة انتهت في سلة القمامة، حاولنا جميعنا إقناعها بأن الله يرى ويعلم حالنا، ويشهدُ بأننا حاولنا أكلها، لكنها ورغم كل ما قلناه استمرت بالبكاء، بعد أن حاولت تهدئتها وأنا أبكي بكاءً مختلطاً بقليل من الضحك الخفيف، ذهبت هي والدمعُ يملأ عينيها، ومَدّت سجادة الصلاة تبكي لله وتطلب مغفرته، وأنا ما زلت في صدمة من أمر أمي أنها ورغم ما تجرعته من ألم فقد عائلة بأكملها من أقاربها وهم أغلى وأقرب عائلة من طرف أُمي على قلبي وقلبها، تبكي وتطلب من الله أن يُسامحها لأن الطعام أُلقيّ في القمامة!ا




نص نشرته الكاتبة في "حكايا غزّة"ا

لم تَعُد تُزعجني أو حتى تؤثر بي فكرة أن العالم لم يأبه بموتنا على مدار حياتنا في غزة، لم تَعد تؤلمني أننا هُنا في مساحة 360 كيلو متر مربع لا نعرف عن الحياة إلا كيفية البقاء على قيدها، وفي أحيانٍ كثير فشل العديد في ذلك، لم تَعُد أحلامي تَلُح عليّ لتحقيقها، ولم يَعد هُناك أحلام من الأصل، تخلصتُ منذُ فترة ليست طويلة من جلد ذاتي على ما وددتُ القيام به ولم أستطع في هذه المدينة المُقدمة لنا كجائزة والمطلوب منّا أن نُحبها وأن نموت من أجلها.ا

لا تُغيظني فكرة ولادتنا في عُلبة كبريت تفتح وتُغلِق من جانبين، لمْ يَعُد يُثير جنوني أن غزة والموت فيها هو قدرنا الذي لا يُمكن أن يُناقش، لم تَعد تحزنني مشاهد الموت والدمار، لم أَعد أغضب لغياب عدالة الأرض وتأخّر عدالة السماء.

ما يُغضبني ويؤلمني ويثير جنوني الآن أنهم اختاروا سلاحًا أقوى من كل الصواريخ والمتفجرات التي ألقوها طوال حياتنا في غزة، أنهم اختاروا تجويعنا كأداة حرب؟

الشمال جائع والجنوب جائع،
الشمال محروم، والجنوب مجنون،ا

هل قرر المُحتل اللعب على نفسية الإنسان القديم ليرحل عن مكان إقامته بسبب الجوع بعد أن فشلت كل خططه بترحيلنا؟

هل أَحكَم هذه الخطة عبر جعل غزة غير قابلة للحياة؟

أي تواطؤ هذا الذي شلّ حياتنا وأنهى الكثير منها؟

أي جنون هذا الذي يجعلني وعائلتي نُفكر بكيفية الحصول على مبلغ لكي نتجاوز جدارًا إسمنتيًّا وصحراء، يوازي مبلغ السفر للقطب الشمالي؟

على ماذا يتم التفاوض؟

كم بعد سيتركنا العالم؟ وأي عالم هذا الذي لا يوجد فيه قوة تستطيع لجم إسرائيل؟

إلى متى سيستمر الموت بالضحك لنا؟
سيناريو يستلم إخراجه واحد تلو الآخر

سيناريو والكثير من الأسئلة
ولا جواب هُنا.ا


مقتطف من نص للكاتبة في "حكايا غزّة"ا

نجحت هذه الحرب بجعلنا نُدرك جميع المعاني والمفاهيم، معنى البيت، الصباح الهادئ، الماء والطعام النظيف، المُقتنيات والهدايا المتروكة، الاستحمام، جلسة مع الأصدقاء في الشرفة، نجحت في جعلي أدور بخيالي في زوايا المنزل، في تخيل كُل شبر فيه، الممر بجوار الباب والطاولة التي تُزينها الأنتيكات التركية والفلسطينية، غُرفتي بضوئها الأصفر وخزانتي الممتلئة بالملابس الدافئة، ساق البامبو في المطبخ التي تذكرتها وأنا أحاول جمع ما يكفي إنسان من المياه لمدة يوم، أنا التي كُنت أُقاتل أمي كل أسبوع لمحاولتي غمرها بالمياه قائلة البامبو بحب المي الكثير،ا

كيف هي الآن بعد قُرابة ثلاثة شهور؟

أخاطب نفسي قائلة: هل وصل الماء للمنتصف أم جفّ كُلياً عنها، أصل لنتيجة مفادها هي الآن عطشى وأنا كذلك.ا

هناك حرب خارجية قاسية وحروب داخلية أشد ضراوة، الكراهية، العُنصرية، شخص يرى أن فلاناً يستحق حُصة من الطعام وآخر لا يستحقها، الخروج من المنزل والاضطرار للعيش والتعامل مع أشخاص لديهم شعور بالتفوق على الآخرين، لا أرى أن قرار الخروج من المنزل كان صحيحاً، ولو يرجع الزمان فيّ ثمانين يوماً لقررت البقاء وحدي في الشمال بين جدران بيتي الدافئة.ا

أتمنى ذلك، ولو انهار عليّ سقفه الحنون

أتمنى، ولو طرت بانفجار محيط فلسطين

أتمنى لو أنني لم أعِش دقيقة واحدة بعد الوادي

الآن كُلنا وحدنا وصور البيت وحياتنا الكريمة.ا

الأهم من ذلك كُله أنه وكما قال مُريد

لا غائب سيعود كاملاً ولا شي سيُستعاد كما هو.ا